الحلقة الثانية من .. ألدار كوسى : ((كيف طرد ألدار كوسى الجني))
الحلقة الثانية من .. ألدار كوسى : ((كيف طرد ألدار كوسى الجني))
كيف طرد ألدار كوسى الجني
دهن ألدار كوسى حذاءه ، وشدّ حزانه ، ورفع أطراف ردائه ، ومضى في سياحة طويلة .
سار نهاراً وليلة ، وشهراً وعاماً .
وفجأة سد طريقه جبل عالٍ تبلغ قمته السحاب ، وكأنه جمل عملاق تمدد في السهوب المقفرة .
توقّف ألدار كوسى وفكّر ، ثم قال على الفور لنفسه :
- ليس هناك مستحيل أمام الإنسان ، أقسى أنواع الحديد يلين تحت مطرقة الحداد ، والعنيد يستطيع أن يحفر البئر ولو بأبرة . كلا ، لن أحيد عن الطريق ، ولن أتراجع أمام المنحدر الوعر .
وقضى ليلته ، وقضى شتاءه ، وفي الربيع بدأ العمل ، فأخذ يحفر الصخور ، ويصنع الدرجات ، ويصعد خطوة فخطوة إلى الأعلى .
وجاءت اللحظة التي بلغ فيها ألدار كوسى القمة ، وعندما رأى أمامه الشمس الساطعة هتف من الفرحة ، وارتمى على الصخر وغاب في نوم عميق .
وعندما استيقظ وجد طائر صقر الليل جاثماً على صدره ، يدير رأسه وينظف ريشه ، فأمسك ألدار كوسى بالطائر من جناحيه ، وقال وهو يضحك :
- هاهو صيدي الأول ! لا تخشَ شيئاً يا صقر الليل ، لن أمسّك بمكروه ، ولكن سيكون عليك أن تتجوّل معي .
وكانت مئات الأفكار تراود عقله ..
وهبط ألدار كوسى إلى الوادي وأخذ يتملّى من جمال السفوح الخضراء والمراعي المزهرة ، وفي الأسفل يلوح جدول رقراق . وبجوار الجدول انتصبت خيمة جديدة ، بيضاء ، أبيض من البيضة ، وفوقها تصاعد الدخان .
وفكّر ألدار : أهي خيمة صديقٍ او عدو ؟ وهل يقطنها بشرٌ أم غيلان رهيبة ؟
اقترب من الباب في حذر ، وتطلع من الشق ، فرأى اثنين : رجلاً وامرأة ، جالسين على كليمٍ مطرّز ، يشربان الكوميس ، ويأكلان لحم ضأن دسم ، ويتبادلان الهمسات والغمزات .
فقال ألدار لنفسه : أوه ، إنني أرى وليمة ، وحيث تقام الولائم يتواجد الضيوف . فلأدخل .
وعطس ألدار : أتش !
ففزعت المرأة :
- آه ، هذا زوجي اللعين قد عاد ، اخبتئ بسرعة .
وجرى الفارس الذي كان يغازلها في الخيمة مضطرباً ، ثم رأى صندوقاً ، فاندفع إليه في الحال وأغلق غطاءه عليه .
فهزّ ألدار رأسه (كلّ شيءٍ مفهوم) وعبر العتبة :
- مرحباً يا سيدتي ! اصنعي معروفاً واسمحي لرحالة متعب بالاستراحة قرب موقدك .
فنظرت إليه المرأة بحدق وصاحت :
- الشيطان قذف بك أيها الضيف الثقيل ! كم أفزعتني .
أما ألدار كوسى فقد تربع في صدر المكان ، ووضع ساقاً على ساق وابتسم بملء فمه .
فسألته ربة البيت بغلّ :
- لِمَ تبتسم ؟ وقالت في نفسها : (هذا اللئيم يفكر في شيءٍ ما)
فقال ألدار برقة :
- أبتسم لهذا الإبريق ذي الكوميس ، ولذلك الطبق ذي اللحم .
- كُلْ إذن واشرب ، واغرب من هنا بسرعة .
لكنّ ألدار سمع (كُلْ واشرب) أما (اغرب من هنا) فلم يسمعها كأنما أصابه الصمم .وجلس ألدار قريباً من المفرش وراح يلتهم كلّ ما كان موضوعاً عليه .
أكل وشرب حتى التخمة ، ثم تربّع على الكليم المزخرف .
وعندما رأت المرأة أنّ الزائر لا ينوي الرحيل ، أخرجت درهماً وقالت :
- خذ هذا الدرهم أيها المتشرّد ، واغرب من هنا .
فشكرها ألدار على هبتها ، وظلّ يشكرها ساعة أو ربما أكثر ، ثم قال :
- إنني ذاهبٌ يا سيدتي .. فقط سأطعم طيري ثم أرحل .
وخلى سبيل صقر الليل ليلتقط الفتات من على المفرش . وأخذ صقر الليل يلتقط ، والوقت يمرّ ، وربة البيت تتميّز غضباً ، وألدار يبتسم في سخرية .
وفجأةً صهل حصانٌ بجوار الخيمة ، وفُتِح الباب ، ودخل البيك صاحب الخيمة ، وتوقّف مندهشاً :
- من هذا الغريب يا زوجتي ؟ وما هذا الطائر ؟
وقبل أن تنطق الزوجة حرفاً قال ألدار :
- ايها البيك المحترم ، أنا ساحر جوّال وعرّاف . أما طائري فهو طائر متنبئ . إنه يعرف جميع الأسرار ، وهو يعلم الماضي ويتنبّأ بالمستقبل . هل تريد أن أكشف لك الغيب وأنبئك بأي مكروهٍ يتهدّدك ؟
فنظر البيك باستعلاء إلى هذا الغريب ، وتربّع بجوار الموقد ، حيث كان ألدار يتربّع منذ قليل ، وقال :
- لو كنت حقّاً عرّافاً لعرفت أنه ليس هناك في هذه الناحية شخصٌ أغنى مني . عندي من الماشية كلّ نوع : الخيول والأبقار والجمال والغنم ، بأعدادٍ لا تحصى . ومن كان غنياً فهو قوي . فأي مكروهٍ يتهدّدني ؟
فقلا ألدار بلهجة المعلمين :
- أوه يا سيدي البيك . لا تَقُل أنّ الذئاب بعيدة ، فهي تختبئ في الوادي .
فاعتدل البيك في جلسته :
- إلامَ تلمّح ؟ هل تعرف شيئاً ما ؟
- أعرف .. ولكني لا أعرف كلّ شيء . الطائر المتنبّئ يعرف كلّ شيء .
- إذا كان الطائر يعرف فليَقُل .
وبدأت طقوس السحر . أخذ ألدار يدور في الخيمة كالزوبعة ، ممسكاً بالطائر فوق رأسه ، ويصيح بكلمات غير مفهومة ، وينثر الأشياء .. وكان الطائر يصرخ وألدار يصيح :
- تنبّأ أيها الطائر السحري ، تنبّأ !
وحدّق البيك بعينين جاحظتين مندهشاً : (لم أرَ أبداً مثل هؤلاء العرّافين ، ربما عاد هذا التنبّؤ بفائدة) .
أما ألدار كوسى فمضى يدور أسرع فأسرع ، ثم تسمّر متصلّباً ، وهمس بصوت رهيب :
- أوه يا بيك ، الأمر سيّء !
فامتقع البيك :
- ماذا هناك ؟
- الطائر يقول : في الصندوق الأصغر ترقد مصيبةٌ سوداء على ملاءةٍ حريرية . وهذا يعني أنّ جنياً شريراً تسلل إلى دارك يا بيك . لابدّ من طرده .
كان البيك يرتعش رعباً ، ومع ذلك أخذ يتطلّع بشكٍّ إلى ألدار : (أليس محتالاً هذا العرّاف ؟ ربما يغرر بي مدّعياً وجود الجن ؟ ولكن فلننظر ماذا سيحدث) .
أما جهراً فقال :
- اطرده يا عزيزي ، اطرده بسرعة !
وكان ألدار كوسى يعرف ما ينبغي أن يفعله ، فتناول مغرفةً وملأها بماء ساخن من القدر الموضوع على النار ، واقترب على أطراف أصابعه من الصندوق ، ورفع غطاءه ، ورشّ الماء الساخن داخله . وفي نفس اللحظة طار غطاء الصندوق فانخلع عن مفصلاته ، وقفز الفارس الملسوع بالماء الساخن قفزةً واحدة فأصبح خارج الخيمة .
ارتمى البيك مغشياً عليه ، واختبأت زوجته تحت البساط ، أما ألدار فأمسك بخصره وهو يهتزّ من الضحك .
ثم أفاق البيك فارتمى على ألدار يعانقه :
- ألف شكرٍ لك يا عزيزي ! طردت البلوى من بيتي ، لولاك لأهلكني الجني الشرير . سآكافئك على خدمتك ، عندي في القطيع حصان ، ليس حصاناً بل دبّاً . خذه لك !
وقفز ألدار من الفرحة ، أما البيك فصمت قليلاً ثم أضاف :
- حتى لا يعود الجني ثانية ـ فكلّ شيء جائز يا أخي ـ بعْ لي طيرك المتنبّئ . سأدفع لك ثمناً مجزياً .
فأشاح ألدار بيديه :
- ماذا تقول ، ماذا توقل يا بيك ؟ لا تفكّر حتى في هذا ! بدون الطائر المتنبّئ تصبح حياتي أشدّ سواداً من الليل .
ولم يتراجع البيك ، ولم يستسلم ألدار . وظلا يتجادلان حتى الليل ، وأخيراً وافق ألدار :
- فليكن كما تشاء ، سأترك لك الطائر ! ولن أخدعك إذا قلت لك أنني اشتريته بأربعين حصاناً . ومازال صاحبه يبكي حتى الآن لأنه باعه بثمنٍ بخس . ولكني لا أسعى وراء ربح ، فكما اشتريته سأبيعك إياه . أربعون حصاناً مقابل الطائر المتنبّئ .
وأخذت عينا البيك تطرفان وكأنما اندسّ فيهما إصبع :
- أوه ! هذا كثير . فالحصان ليس جرادة !
- كما تشاء ، فأنا لا أكرهك على الشراء . والطائر المتنبّئ أيضاً ليس عصفوراً !
ووجد البيك أن لا فائدة ، فقال :
- أعطيك ثلاثين حصاناً .
- هذا قليل ، أربعين !
- ثلاثين !
- أربعين !
وإذا تجادل ماكران فهل يتّفقان بسرعة ؟
ظلّت الضجة مستمرةً شهراً ، وربما سنة في خيمة البيك . كانا يتّفقان ثم يختلفان ، ويفاصلان ويتساومان ويشدّان على الأيدي متعاهدَين . وأخيراً استسلم البيك ، فقال وهو يمسح العرق من جبينه :
- خذ أربعين جواداً والطائر لي .
وربما بسبب الفرحة ، أو الحزن ، وربما عن حقٍّ أو تظاهر ، أعول ألدار بصوتٍ عالٍ ، وضمّ الطائر إليه ، وراح يودّعه :
- وداعاً يا صديقي ، وداعاً أيها الطائر المتنبّئ ! كيف سأعيش الآن بدون ؟ أين سأجد السلوى وحدي ؟
وظلّ ألدار يودّع الطائر أسبوعاً ، آكلاً شارباً نائماً في خيمة البيك ، إلى أن أخبره قلبه : (البحيرة الراكدة يملؤها الطين ، والحصان الذي لا يُركَب يسبقه المهر . ما أطول دروب الحياة ولكنّ العمر قصير) .
عندئذٍ امتطى الحصان ـ الدب ، ورفع عقيرته بالغناء ، وساق أمامه قطيع الخيول الأربعين التي أخذها من البيك .
وقبيل المساء لحق بشابٍّ مترجّل فصاح يناديه :
- اسمع يا فتي ، لماذا تسير مترجّلاً ؟ أين حصانك ؟
فأجاب الشاب بحزن :
- لم يعد لديّ حصان .. لدغه عنكبوت سام .. هلك الحصان .
- هكذا !! حسناً ، اختر لنفسك حصاناً من قطيعي ، أي حصان . أهديه لك .
وفي اليوم التالي لحق ألدار كوسى براجل آخر ، وكان رجلاً متوسط العمر .
- ماذا يا عماه ! أليس لديك حصان ؟
- حتى الأمس كان لدي حصان طيب ، أما اليوم .. استولى عليه أبناء البيك في الطريق ، ونجوت بجلدي ..
فقال له ألدار كوسى :
- ألا فلتحلّ بهم اللعنة ، هؤلاء اللصوص الذين ينهبون الفقراء . لا تحزن . خذ حصاناً من قطيعي وارحل حيث تشاء .
وفي اليوم الثالث لحق ألدار كوسى بعجوز متهالك . كان العجوز يجرّ ساقيه متوكّئاً على عصى .
فقال له ألدار كوسى :
- من الصعب يا جدي أن تذرع السهوب على قدميك في آخر العمر . أليس لديك حصان ؟
فأجاب العجوز :
- كنت طوال عمري أرعة خيول البيك ، ولكني لم أحصل لنفسي على حصان . هكذا يا بني ..
فاستوقفه ألدار كوسى :
- مهلاً يا جدي ، لا تتعجّل . خذ حصاناً من قطيعي . اختر منه ما يعجبك وخذه لك . لا ترفض ، واسمح لي أن أساعدك على الركوب .
وكلّما سار ألدار كوسى تناقص عدد الخيول في قطيعه وفي اليوم الواحد والأربعين لم يبقَ لديه سوى الحصان الذي يمتطيه .
وهنا رأى ألدار فتاة تجري في السهوب فتفزع الطيور .
- ماذا حدث ؟ ممن تهربين يا حسناء ؟
فأجابت الفتاة وهي تذرف الدموع :
- أهرب من الموت ، أبي باعني لعجوز غني ... ولكني أحب راعياً شاباً شجاعاً . وهو أيضاً يحبني .. أنا أهرب إليه . فلو نجوت من المطاردة سنعيش سعداء حتى إذا كنا فقراء ، ولو أمسكوا بي فستكون نهايتي ونهايته معاً .
فقفز ألدار مترجّلاً عن الحصان ، وابتسم برقة وقال :
- يا أختي العزيزة ، من العيب أن يفكر المرء في نهاية حياته وهو لا يزال في مقتبل العمر ، اركبي واركضي إلى حبيبك ، بهذا الحصان لن يدركك المكروه أو الموت . فعيشا في سعادةٍ مائة عام .
واستانف ألدار كوسى سيره على قدميه . سار خفيف الخطوات ، يتأمّل السهوب وبيتسم للسماء والشمس ، ويغني لنفسه الأغاني كالقبرة ، ولا يفكّر فيما يتنظره في المستقبل ، ولا يأسف على ما مضى من أيام ..
دهن ألدار كوسى حذاءه ، وشدّ حزانه ، ورفع أطراف ردائه ، ومضى في سياحة طويلة .
سار نهاراً وليلة ، وشهراً وعاماً .
وفجأة سد طريقه جبل عالٍ تبلغ قمته السحاب ، وكأنه جمل عملاق تمدد في السهوب المقفرة .
توقّف ألدار كوسى وفكّر ، ثم قال على الفور لنفسه :
- ليس هناك مستحيل أمام الإنسان ، أقسى أنواع الحديد يلين تحت مطرقة الحداد ، والعنيد يستطيع أن يحفر البئر ولو بأبرة . كلا ، لن أحيد عن الطريق ، ولن أتراجع أمام المنحدر الوعر .
وقضى ليلته ، وقضى شتاءه ، وفي الربيع بدأ العمل ، فأخذ يحفر الصخور ، ويصنع الدرجات ، ويصعد خطوة فخطوة إلى الأعلى .
وجاءت اللحظة التي بلغ فيها ألدار كوسى القمة ، وعندما رأى أمامه الشمس الساطعة هتف من الفرحة ، وارتمى على الصخر وغاب في نوم عميق .
وعندما استيقظ وجد طائر صقر الليل جاثماً على صدره ، يدير رأسه وينظف ريشه ، فأمسك ألدار كوسى بالطائر من جناحيه ، وقال وهو يضحك :
- هاهو صيدي الأول ! لا تخشَ شيئاً يا صقر الليل ، لن أمسّك بمكروه ، ولكن سيكون عليك أن تتجوّل معي .
وكانت مئات الأفكار تراود عقله ..
وهبط ألدار كوسى إلى الوادي وأخذ يتملّى من جمال السفوح الخضراء والمراعي المزهرة ، وفي الأسفل يلوح جدول رقراق . وبجوار الجدول انتصبت خيمة جديدة ، بيضاء ، أبيض من البيضة ، وفوقها تصاعد الدخان .
وفكّر ألدار : أهي خيمة صديقٍ او عدو ؟ وهل يقطنها بشرٌ أم غيلان رهيبة ؟
اقترب من الباب في حذر ، وتطلع من الشق ، فرأى اثنين : رجلاً وامرأة ، جالسين على كليمٍ مطرّز ، يشربان الكوميس ، ويأكلان لحم ضأن دسم ، ويتبادلان الهمسات والغمزات .
فقال ألدار لنفسه : أوه ، إنني أرى وليمة ، وحيث تقام الولائم يتواجد الضيوف . فلأدخل .
وعطس ألدار : أتش !
ففزعت المرأة :
- آه ، هذا زوجي اللعين قد عاد ، اخبتئ بسرعة .
وجرى الفارس الذي كان يغازلها في الخيمة مضطرباً ، ثم رأى صندوقاً ، فاندفع إليه في الحال وأغلق غطاءه عليه .
فهزّ ألدار رأسه (كلّ شيءٍ مفهوم) وعبر العتبة :
- مرحباً يا سيدتي ! اصنعي معروفاً واسمحي لرحالة متعب بالاستراحة قرب موقدك .
فنظرت إليه المرأة بحدق وصاحت :
- الشيطان قذف بك أيها الضيف الثقيل ! كم أفزعتني .
أما ألدار كوسى فقد تربع في صدر المكان ، ووضع ساقاً على ساق وابتسم بملء فمه .
فسألته ربة البيت بغلّ :
- لِمَ تبتسم ؟ وقالت في نفسها : (هذا اللئيم يفكر في شيءٍ ما)
فقال ألدار برقة :
- أبتسم لهذا الإبريق ذي الكوميس ، ولذلك الطبق ذي اللحم .
- كُلْ إذن واشرب ، واغرب من هنا بسرعة .
لكنّ ألدار سمع (كُلْ واشرب) أما (اغرب من هنا) فلم يسمعها كأنما أصابه الصمم .وجلس ألدار قريباً من المفرش وراح يلتهم كلّ ما كان موضوعاً عليه .
أكل وشرب حتى التخمة ، ثم تربّع على الكليم المزخرف .
وعندما رأت المرأة أنّ الزائر لا ينوي الرحيل ، أخرجت درهماً وقالت :
- خذ هذا الدرهم أيها المتشرّد ، واغرب من هنا .
فشكرها ألدار على هبتها ، وظلّ يشكرها ساعة أو ربما أكثر ، ثم قال :
- إنني ذاهبٌ يا سيدتي .. فقط سأطعم طيري ثم أرحل .
وخلى سبيل صقر الليل ليلتقط الفتات من على المفرش . وأخذ صقر الليل يلتقط ، والوقت يمرّ ، وربة البيت تتميّز غضباً ، وألدار يبتسم في سخرية .
وفجأةً صهل حصانٌ بجوار الخيمة ، وفُتِح الباب ، ودخل البيك صاحب الخيمة ، وتوقّف مندهشاً :
- من هذا الغريب يا زوجتي ؟ وما هذا الطائر ؟
وقبل أن تنطق الزوجة حرفاً قال ألدار :
- ايها البيك المحترم ، أنا ساحر جوّال وعرّاف . أما طائري فهو طائر متنبئ . إنه يعرف جميع الأسرار ، وهو يعلم الماضي ويتنبّأ بالمستقبل . هل تريد أن أكشف لك الغيب وأنبئك بأي مكروهٍ يتهدّدك ؟
فنظر البيك باستعلاء إلى هذا الغريب ، وتربّع بجوار الموقد ، حيث كان ألدار يتربّع منذ قليل ، وقال :
- لو كنت حقّاً عرّافاً لعرفت أنه ليس هناك في هذه الناحية شخصٌ أغنى مني . عندي من الماشية كلّ نوع : الخيول والأبقار والجمال والغنم ، بأعدادٍ لا تحصى . ومن كان غنياً فهو قوي . فأي مكروهٍ يتهدّدني ؟
فقلا ألدار بلهجة المعلمين :
- أوه يا سيدي البيك . لا تَقُل أنّ الذئاب بعيدة ، فهي تختبئ في الوادي .
فاعتدل البيك في جلسته :
- إلامَ تلمّح ؟ هل تعرف شيئاً ما ؟
- أعرف .. ولكني لا أعرف كلّ شيء . الطائر المتنبّئ يعرف كلّ شيء .
- إذا كان الطائر يعرف فليَقُل .
وبدأت طقوس السحر . أخذ ألدار يدور في الخيمة كالزوبعة ، ممسكاً بالطائر فوق رأسه ، ويصيح بكلمات غير مفهومة ، وينثر الأشياء .. وكان الطائر يصرخ وألدار يصيح :
- تنبّأ أيها الطائر السحري ، تنبّأ !
وحدّق البيك بعينين جاحظتين مندهشاً : (لم أرَ أبداً مثل هؤلاء العرّافين ، ربما عاد هذا التنبّؤ بفائدة) .
أما ألدار كوسى فمضى يدور أسرع فأسرع ، ثم تسمّر متصلّباً ، وهمس بصوت رهيب :
- أوه يا بيك ، الأمر سيّء !
فامتقع البيك :
- ماذا هناك ؟
- الطائر يقول : في الصندوق الأصغر ترقد مصيبةٌ سوداء على ملاءةٍ حريرية . وهذا يعني أنّ جنياً شريراً تسلل إلى دارك يا بيك . لابدّ من طرده .
كان البيك يرتعش رعباً ، ومع ذلك أخذ يتطلّع بشكٍّ إلى ألدار : (أليس محتالاً هذا العرّاف ؟ ربما يغرر بي مدّعياً وجود الجن ؟ ولكن فلننظر ماذا سيحدث) .
أما جهراً فقال :
- اطرده يا عزيزي ، اطرده بسرعة !
وكان ألدار كوسى يعرف ما ينبغي أن يفعله ، فتناول مغرفةً وملأها بماء ساخن من القدر الموضوع على النار ، واقترب على أطراف أصابعه من الصندوق ، ورفع غطاءه ، ورشّ الماء الساخن داخله . وفي نفس اللحظة طار غطاء الصندوق فانخلع عن مفصلاته ، وقفز الفارس الملسوع بالماء الساخن قفزةً واحدة فأصبح خارج الخيمة .
ارتمى البيك مغشياً عليه ، واختبأت زوجته تحت البساط ، أما ألدار فأمسك بخصره وهو يهتزّ من الضحك .
ثم أفاق البيك فارتمى على ألدار يعانقه :
- ألف شكرٍ لك يا عزيزي ! طردت البلوى من بيتي ، لولاك لأهلكني الجني الشرير . سآكافئك على خدمتك ، عندي في القطيع حصان ، ليس حصاناً بل دبّاً . خذه لك !
وقفز ألدار من الفرحة ، أما البيك فصمت قليلاً ثم أضاف :
- حتى لا يعود الجني ثانية ـ فكلّ شيء جائز يا أخي ـ بعْ لي طيرك المتنبّئ . سأدفع لك ثمناً مجزياً .
فأشاح ألدار بيديه :
- ماذا تقول ، ماذا توقل يا بيك ؟ لا تفكّر حتى في هذا ! بدون الطائر المتنبّئ تصبح حياتي أشدّ سواداً من الليل .
ولم يتراجع البيك ، ولم يستسلم ألدار . وظلا يتجادلان حتى الليل ، وأخيراً وافق ألدار :
- فليكن كما تشاء ، سأترك لك الطائر ! ولن أخدعك إذا قلت لك أنني اشتريته بأربعين حصاناً . ومازال صاحبه يبكي حتى الآن لأنه باعه بثمنٍ بخس . ولكني لا أسعى وراء ربح ، فكما اشتريته سأبيعك إياه . أربعون حصاناً مقابل الطائر المتنبّئ .
وأخذت عينا البيك تطرفان وكأنما اندسّ فيهما إصبع :
- أوه ! هذا كثير . فالحصان ليس جرادة !
- كما تشاء ، فأنا لا أكرهك على الشراء . والطائر المتنبّئ أيضاً ليس عصفوراً !
ووجد البيك أن لا فائدة ، فقال :
- أعطيك ثلاثين حصاناً .
- هذا قليل ، أربعين !
- ثلاثين !
- أربعين !
وإذا تجادل ماكران فهل يتّفقان بسرعة ؟
ظلّت الضجة مستمرةً شهراً ، وربما سنة في خيمة البيك . كانا يتّفقان ثم يختلفان ، ويفاصلان ويتساومان ويشدّان على الأيدي متعاهدَين . وأخيراً استسلم البيك ، فقال وهو يمسح العرق من جبينه :
- خذ أربعين جواداً والطائر لي .
وربما بسبب الفرحة ، أو الحزن ، وربما عن حقٍّ أو تظاهر ، أعول ألدار بصوتٍ عالٍ ، وضمّ الطائر إليه ، وراح يودّعه :
- وداعاً يا صديقي ، وداعاً أيها الطائر المتنبّئ ! كيف سأعيش الآن بدون ؟ أين سأجد السلوى وحدي ؟
وظلّ ألدار يودّع الطائر أسبوعاً ، آكلاً شارباً نائماً في خيمة البيك ، إلى أن أخبره قلبه : (البحيرة الراكدة يملؤها الطين ، والحصان الذي لا يُركَب يسبقه المهر . ما أطول دروب الحياة ولكنّ العمر قصير) .
عندئذٍ امتطى الحصان ـ الدب ، ورفع عقيرته بالغناء ، وساق أمامه قطيع الخيول الأربعين التي أخذها من البيك .
وقبيل المساء لحق بشابٍّ مترجّل فصاح يناديه :
- اسمع يا فتي ، لماذا تسير مترجّلاً ؟ أين حصانك ؟
فأجاب الشاب بحزن :
- لم يعد لديّ حصان .. لدغه عنكبوت سام .. هلك الحصان .
- هكذا !! حسناً ، اختر لنفسك حصاناً من قطيعي ، أي حصان . أهديه لك .
وفي اليوم التالي لحق ألدار كوسى براجل آخر ، وكان رجلاً متوسط العمر .
- ماذا يا عماه ! أليس لديك حصان ؟
- حتى الأمس كان لدي حصان طيب ، أما اليوم .. استولى عليه أبناء البيك في الطريق ، ونجوت بجلدي ..
فقال له ألدار كوسى :
- ألا فلتحلّ بهم اللعنة ، هؤلاء اللصوص الذين ينهبون الفقراء . لا تحزن . خذ حصاناً من قطيعي وارحل حيث تشاء .
وفي اليوم الثالث لحق ألدار كوسى بعجوز متهالك . كان العجوز يجرّ ساقيه متوكّئاً على عصى .
فقال له ألدار كوسى :
- من الصعب يا جدي أن تذرع السهوب على قدميك في آخر العمر . أليس لديك حصان ؟
فأجاب العجوز :
- كنت طوال عمري أرعة خيول البيك ، ولكني لم أحصل لنفسي على حصان . هكذا يا بني ..
فاستوقفه ألدار كوسى :
- مهلاً يا جدي ، لا تتعجّل . خذ حصاناً من قطيعي . اختر منه ما يعجبك وخذه لك . لا ترفض ، واسمح لي أن أساعدك على الركوب .
وكلّما سار ألدار كوسى تناقص عدد الخيول في قطيعه وفي اليوم الواحد والأربعين لم يبقَ لديه سوى الحصان الذي يمتطيه .
وهنا رأى ألدار فتاة تجري في السهوب فتفزع الطيور .
- ماذا حدث ؟ ممن تهربين يا حسناء ؟
فأجابت الفتاة وهي تذرف الدموع :
- أهرب من الموت ، أبي باعني لعجوز غني ... ولكني أحب راعياً شاباً شجاعاً . وهو أيضاً يحبني .. أنا أهرب إليه . فلو نجوت من المطاردة سنعيش سعداء حتى إذا كنا فقراء ، ولو أمسكوا بي فستكون نهايتي ونهايته معاً .
فقفز ألدار مترجّلاً عن الحصان ، وابتسم برقة وقال :
- يا أختي العزيزة ، من العيب أن يفكر المرء في نهاية حياته وهو لا يزال في مقتبل العمر ، اركبي واركضي إلى حبيبك ، بهذا الحصان لن يدركك المكروه أو الموت . فعيشا في سعادةٍ مائة عام .
واستانف ألدار كوسى سيره على قدميه . سار خفيف الخطوات ، يتأمّل السهوب وبيتسم للسماء والشمس ، ويغني لنفسه الأغاني كالقبرة ، ولا يفكّر فيما يتنظره في المستقبل ، ولا يأسف على ما مضى من أيام ..
Divine Devil- عضوية ماسـية
- عدد الرسائل : 79
العمر : 44
تاريخ التسجيل : 02/04/2008
رد: الحلقة الثانية من .. ألدار كوسى : ((كيف طرد ألدار كوسى الجني))
شكرا لك يا أمورة على النقل
زائر- زائر
رد: الحلقة الثانية من .. ألدار كوسى : ((كيف طرد ألدار كوسى الجني))
لا شكر على واجب ..
وأرجو أن تتابعوا باقي الحلقات
ففيها من المتعة والفائدة الكثير الكثير
وأرجو أن تتابعوا باقي الحلقات
ففيها من المتعة والفائدة الكثير الكثير
Divine Devil- عضوية ماسـية
- عدد الرسائل : 79
العمر : 44
تاريخ التسجيل : 02/04/2008
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى